.
في الربيع من عمره، يرتاد مدرسة عامة تُدعى ( الحياة )، يطلب منه أحد معليمه فروضًا عسيرة على الأمل، منها أن يختار إنسانًا واحدًا كعنوان للبشرية جمعاء...فهل يجد ؟ أن يُسمي فعلًا واحدًا يلازم الإنسان من مرحلة الجنين إلى ما قبل الرحيل الأبدي.
في المساء، يمشي وحيدًا مع الأعزاء على ساحل البحر، ساحل العمر ، يبتسم لوعد موجة قادمة من خلف البحر، هناك حيث نعتقد في فترة ما من حياتنا أن شيئًا ما خلف البحر ينتظرنا . سرعان ما تُلوح موجته مودعة مُتراجعة.
(افتقدني) ..يختار فعل الأمر هذا كإجابة على فرضة الأخير، يسافر عن الأعزاء ، يتذكر طفولته ، شفافية الدهشة والعالم الذي كان شيقًا وكبيرًا، الأشياء في بيته كانت هائلة أمام أصابعه الصغيرة ...والداه ...أخوته ... خشب سريره المزين بألوان الرمان وورق الغار، أين هم أحباء قلبه الآن ؟ أين سريره العظيم الذي حماه من أخطار الكون ... أين قلبه المكلل بالأماني والورد ؟ يعود ويؤكد على اختياره ( افتقدني) كإجابة على فرضه .
اليوم يعيش الخريف ، يجلس وحيدًا على مقعد في حديقة عامة، في بلد غريب، يده تستند على كتاب مفتوح على الصفحة الأخيرة ، يرسل عيناه في زحام الوجوه، يترك قلبه مع موسيقا البشر ، يبحث عن علامته الفارقة لزمانه ومكانه ، يبحث عن شيء مفقود لكنه لا يعرفه، شيء نفيس كان يمتلكه وأضاعه بين أجندات الواقع والأحلام ، يتمنى لو أنه أحضر معه قلمًا ليرسم على تلك الصفحة..قارب ، بحر.. ونورس يؤنس وحدة الشراع .
يُبصر طفلة تُطير طائرة ورقية ، ومعها ترفرف عيناها العذبتان كجناحي يمامة، مجددًا يسافر على متن طائرتها الورقية ، يُجاور سحابة تحمل مطرًا ، يُرجح أنه كان في عينيه دمعًا يوماً ما ، يوم كان يبكي على أحزان بشر يعرفهم فقط من نشرات الأخبار .
كم أحب المطر ؟ وكم يستهويه شعور ما بعد سقوط المطر؟ فحتى الغريب عندما يحل على بلد يدرك أن هذا الوقت هو ما بعد سقوط المطر، مطر يعطر المكان برائحة ( الأخضر ) ويغلف الروح بغلالة قمرية سماوية، يدرك حقائق لم تدونها الموسوعات العلمية منها أن ملامح البشر تأخذ شكل دمعة ... قطرة ...عندما يتأملون هطول المطر، تتوحد حواس المتضادين، بل تتوحد حواس الإنسان الواحد، يتشابه القوي والضعيف السعيد والشقي ، يصبح الجميع طفلاً اسمه طُهر، نسغ بارد يتسلل إلى القلب .... مطرٌ في القلب إذا !
يُفكر في أشجار الحديقة وأشجار الشوارع، هو ومنذ زمن أختار أن يُصادق أشجار الطرقات، رغم الزحام من حولها تبدو وحيدة أبدًا ، لا أرجوحة...لا حكايات تُخيم أسفلها، لاوجود للإنسان، ذلك النوع من أصحاب القلوب المطيرة ، عوملت على مر الأزمان كجمهور أنيق لثنائية المساء والصبح . يتأمل أغصانها، توحي دومًا أنها مستعدة لاحتضان قبائل عصافير، أضلعه هي الأخرى كانت أغصان ريحان تعبق شغفًا للقادم .
مرت في خاطره عبارة سمعها في دراما تلفزيونية تحمل عنوان ( أوبرا عايدة ) : (( هو انته ليه غاوي دايما تلعب دور الإنسان ؟ ))، هو أيضا عشق أن يعيش دور الإنسان لكنه يدرك أنه شارك في فشل جماعي .
يجلس في المقهى مع الأعزاء ، أعزاء آخرين ، يسافر على كثيب طاولته الخشبية ، المرصعة بفناجين قهوة بتوليفة اليوم والأمس، الثرثرة والصمت يرحل مجددًا مع أشعة الضوء المتسللة من حواجز الأرابيسك متخذه أشكالها الهندسية، ماذا لو كان ضوء أرواحنا ينعكس للخارج ...ماذا سيكون شكل روحي ؟ يتساءل .
ينظر من النافذة للخارج ، سيدة تبدو كشجرة ، تحاول أن تخلق فرصة لتعبر الشارع ، كم فرصة فوتت بسبب حذرها ؟ لابد أن هنالك من ينتظرها، هي تشكل فرقًا كبيرًا وحاسمًا في زمانها ومكانها ، لأعزاء آخرين لا يعرفهم هو، ربما لم ترد سيرتهم كخبر في جريدة، أو لم يحققوا رقمًا قياسيا لتضمهم موسوعة جينيس! حتمًا كانوا مشغولين بترتيب منزل صغير أوتسجيل ضحكة طفل للذكرى ،يعود ويكرر هؤلاء هم من شكلوا فرقًا ، لذلك لم يعرفهم ولم يلتق بهم في مقاعد الحدائق ولا أسفل فيء شجرة طريق، أخيرًا عبرت السيدة وخلفها ينعكس ضوء روحها متخذًا هيئة شجرة لوز .
يعود.. ويسأل أحد أعزاء المقهى : ماذا لو كنت الناجي الوحيد ... أتفرح ؟
واعدة ...مبتكرة في مصطلحات اﻹنسانية...ترسمين بريشة جمعت جميع مشاعر اﻹنسان...ولكني أتمنى مزيدا من البهجة في ألوانك..فمازالت مملكة النهار واسعة اﻷرجاء وهناك حاجة لمزيد من اﻷلوان..وعندما يأتي الظلام سنتوعده بغد يزيله ونستمتع بعده بالنهار من جديد..مارأيك
ردحذفوماذا سيكون رأيي؟
ردحذفدلني فقط على مكان جيد لأبتاع علبة ألوان تليق بمملكة النهار.
أسعدني هذا الاقتراح وهذا المرور فكل التقدير يا مادح راجي.
سافرت فعلا مع كلماتك، يا لهذا الدفق بالمشاعر، يا لهذه النكهة المميزة التي تشبه رائحة الارض بعد المطر، لماذا نشعر بالحنين والحزن حين نشمها؟اجدتي الوصف والرسم.. انا.. نفسي.. الغير معروف.. عابر سبيل.
ردحذفعابر سبيل، كل التقدير والترحاب لوجودك وقراءتك، وللأثر الذي تركت فهو أيضًا يشبه رائحة الأرض بعد الممطر.
ردحذف